تراجع الديمقراطية العالمي- هل نشهد الانتقال إلى الاستبداد؟

المؤلف: د. منصف المرزوقي10.21.2025
تراجع الديمقراطية العالمي- هل نشهد الانتقال إلى الاستبداد؟

لقد أكثرنا من استخدام عبارة "الانتقال الديمقراطي" في السنوات الأخيرة، واهمين أننا نسير بشكل حتمي، وفي جميع أنحاء العالم، من الأنظمة التسلطية نحو الأنظمة الديمقراطية. غفلنا عن حقيقة أننا نعيش، على أرض الواقع، تحولًا نحو الاستبداد.

تمعنوا في كيفية تعامل السلطات في كل من أمريكا وأوروبا مع مظاهرات الطلاب الداعمة لغزة، التي تواجه خطر الإبادة الجماعية بشكل سافر. والأدهى من عنف الشرطة، هو التجلي الواضح لسطوة الأرستقراطيات الخفية على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، سعيًا لإخماد كافة الأصوات الحرة وفرض الرواية الصهيونية المهيمنة.

خلال أشهر الحرب على غزة، تجلى بوضوح تراجع الحريات الفردية والجماعية حتى في تلك الدول التي طالما تغنت بالديمقراطية. هذا التراجع لم يكن نابعًا من إرادة الحكومات التي فقدت سلطتها الحقيقية منذ زمن بعيد، ولا يخدم مصالحها، بل كان بإيعاز من الشركات العملاقة في عالم الإعلام والإنترنت، ولمصلحتها الخاصة. فهل ستتحول مقولة تمتع الناس بالحريات الفردية والجماعية، وسيادة الشعب عبر انتخابات حرة ونزيهة – حتى في أعرق الديمقراطيات – إلى نكتة سمجة، يروجها المخادعون على المخدوعين؟

تأملوا ما يجري في دولة كنا نعتبرها أكبر ديمقراطية في العالم. خلال زيارة خاطفة لجامعة برينستون، التقيت بالدكتورة كريتي كابيلا، الباحثة الهندية المتخصصة في العلوم الاجتماعية. تدرس الدكتورة كابيلا حاليًا تداعيات عملية بالغة الخطورة بدأت في بلدها، بعد تجربتها في الصين، وهي فرض بطاقة هوية إلكترونية على ما يقارب المليار مواطن هندي، تحتوي هذه البطاقة على تفاصيل دقيقة مثل ملامح الوجه، والبصمات، وقرنية العين، والمهنة. وبات إنجاز أي معاملة تجارية أو إدارية أمرًا مستحيلًا بدون هذه البطاقة.

وهذا يعني ببساطة أن السلطة ستتمكن من معرفة كل تفاصيل حياة المواطنين، بداية من تحركاتهم اليومية وصولًا إلى معاملاتهم البنكية، ومن سيصوتون له في الانتخابات، وماذا يقرؤون، ومع من يتعاملون ويتواصلون. تخيلوا كيف يمكن استغلال هذه المعلومات الهائلة، ولمصلحة من سيتم توظيفها؟

كم يبدو الاستبداد القديم، الذي لم يكن يملك سوى جواسيس يجلسون في المقاهي ويتظاهرون بقراءة الصحف لمراقبة المجتمع، مثيرًا للشفقة والسخرية في أيامنا هذه! استبداد لم يكن يملك، للتحكم في العقول والقلوب، إلا وسائل إعلام محدودة، مكتوبة ومسموعة ومرئية، يمتلكها وحده. أما الاستبداد الذي بدأت ملامحه تتشكل بسرعة فائقة أمام أعيننا، فهو ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ البشرية جمعاء.

ففي الشرق، يلقي المحور الاستبدادي المكون من الصين والهند وروسيا بظلاله القاتمة على ثلث سكان العالم، وفي الغرب، لا يبشر احتمال عودة ترامب في أمريكا، والصعود المتواصل لليمين المتطرف في أوروبا، بأي ضمان لاستمرار الديمقراطية في معاقلها التاريخية. ولا تسأل عن عودة الانقلابات العسكرية في أفريقيا، أو عن مغزى انتخاب رئيس مثل الرئيس الأرجنتيني الحالي. أما في عالمنا العربي، فقد أُجهضت الثورات الديمقراطية بالثمن الباهظ الذي نعرفه جميعًا.

كيف لنا أن نخاطب عقول وقلوب شرائح واسعة من مجتمعاتنا، ممن يرون أن الوضع الكارثي الذي تتخبط فيه دول ثورات عام 2011 هو نتيجة للثورة نفسها، وليس جريمة الثورة المضادة؟ بل إن منهم من لا يزال يصر على أن الديمقراطية هي مجرد أيديولوجية غربية استعمارية يجب رفضها، على الرغم من أن شباب الغرب هم الذين انتفضوا نصرة لفلسطين، وليس شباب العرب؟

أليس من السذاجة إذن التمسك بالمشروع الديمقراطي، وهو اليوم في حالة انحدار مستمر في معظم أنحاء العالم، وفي وضع بالغ الخطورة لم يشهده من قبل عبر تاريخه الطويل؟

ولمواجهة هذا التسونامي من الإحباط، دعونا نسأل المشككين في جدوى التمسك بالمشروع الديمقراطي: أليست معظم الكوارث والمآسي التي نتخبط فيها هي نتيجة لسببين رئيسيين: فشل الحوكمة الرشيدة في جميع بلداننا دون استثناء – أي الاستبداد – وفشل الدولة القُطْرية الشمولية المتخلفة، التي رسم الاستعمار الغربي حدودها، في تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، ناهيك عن الحفاظ على الحد الأدنى من استقلالية القرار؟

الحقيقة التي تجاهلها دعاة الوحدة العربية هي أن الأنظمة الديكتاتورية لا يمكن أن تتحد فيما بينها. فكل ديكتاتور يعتبر بلاده مزرعته الخاصة، ولا يقبل بالتنازل عن سلطته المطلقة عليها تحت أي ظرف من الظروف. إذن، الفشلان مرتبطان ارتباطًا وثيقًا ببعضهما البعض. ففشل التحول الديمقراطي لم يكرس فقط سطوة أنظمة فاسدة وقمعية وتابعة وغير كفؤة، بل منع هذه الدول أيضًا من إيجاد صيغة مماثلة للاتحاد الأوروبي، الذي لم يرَ النور إلا بعد انهيار الأنظمة الاستبدادية النازية والفاشية والشيوعية.

هل كانت الأمة ستعرف كل هذا الهوان، وهل سيكون أربعمائة مليون عربي اليوم كالأيتام على مأدبة اللئام، لو كان هناك اتحاد عربي بين دول ديمقراطية على غرار الاتحاد الأوروبي؟

قناعتي الراسخة، والتي استمدها من نصف قرن من المعارك النظرية والسياسية، هي أنه لا مستقبل لشعوب أمتنا إلا ببناء دول قانون ومؤسسات قوية على أنقاض حكم الفرد والعصابات. هذا هو السبيل الوحيد القادر، من جهة، على خلق شعوب من المواطنين الخلاقين والمبدعين، بدلًا من شعوب الرعايا السلبيين الذين خلقهم الاستبداد. ومن جهة أخرى، هو السبيل الوحيد الذي يسمح ببناء اتحاد بين شعوب حرة ودول مستقلة على غرار الاتحاد الأوروبي، الذي لم يتأسس إلا على أنقاض الأنظمة الديكتاتورية البائدة.

إذًا، صِفّ الآن للأجيال المحبطة، وللأجيال المتشككة، بقية الحجج التي تدعم المضي قدمًا في مشروعنا الديمقراطي، وضع أمام أعينها الحقيقة الساطعة التي لا ينكرها إلا مخادع أو مخدوع، وهي أن النظام الديمقراطي هو:

  • النظام الوحيد القادر على حماية المجتمع من الوقوع في قبضة زعيم غير كفؤ. فالبشر جميعًا عرضة للخطأ، مع فارق جوهري هو أن خطأ الزعيم قد يكلف حياة الملايين.
  • النظام الوحيد القادر على بناء استقرار حقيقي من خلال التداول السلمي للسلطة. فالصراع العنيف على السلطة هو السبب الرئيسي في مآسي مجتمعاتنا.
  • النظام الوحيد القادر على توفير الحد الأدنى من الحماية القانونية لأفراد المجتمع.
  • النظام الوحيد القادر على مواجهة آفة الفساد المستشري، التي تتسبب في استنزاف خيرات المجتمع لمصلحة أقلية أنانية وشريرة.
  • النظام الوحيد القادر على حماية الحريات الفردية والجماعية، التي تضمن للأفراد والجماعات حقوقهم المشروعة، وعلى رأسها الكرامة الإنسانية.

قد يتساءل قائل: كلام جميل ومنطقي، ولكن لماذا نرى هذا النظام العبقري يترنح ويتراجع في المناطق التي ترسخ فيها، ويفشل في البقاء في الأماكن التي أتاحت له الثورات فرصة ذهبية، كما حدث في دول الربيع العربي، وخاصة في تونس؟ قناعتي اليوم هي أن مصاعب الديمقراطية لا تعود فقط إلى شراسة الاستبداد وتجذره العميق في غرائزنا وتجدد آلياته وتزايد فاعليتها، بل هي أيضًا، وإلى حد كبير، بسبب الآليات المتبعة والخيارات الفكرية والقيمية التي تستند إليها.

من هذا المنطلق، إذا أردنا التمسك بالمشروع الديمقراطي ومواصلته بفرص معقولة للنجاح، فعلينا ألا نغير شيئًا من أهداف الديمقراطية النبيلة، ولكن يجب علينا أن نغير كل شيء في الوسائل المستخدمة لتحقيق هذه الأهداف. فالوسائل الحالية هي اليوم من أهم أسباب الأزمة الخانقة التي تعصف بالديمقراطية، بل إنها من يمهد الطريق لعودة الاستبداد وهلاكه.

الحلقة القادمة: المراجعات الضرورية

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة